العلمانية المؤمنة لا تصدر عن هوى يرمي للتجديد أو التغيير، بل هي "برنامج للنهضة"، كما قلنا مراراً، ما يعني أنها ذات غاية واضحة، تتطابق تماماً مع أصل غاية الإسلام وهدفه، المتمثل بإعلاء كلمة الله وإعمار الأرض. أما خطتها في ذلك، فهي العمل بالإسلام وفق حقيقته التي نزل بها، لا وفق الفهم البشري الذي ألصق به، من أجل إنهاض المسلمين وإعادتهم إلى سكة التاريخ، تحقيقاً لكون الإسلام صالحاً لكل زمان: به تنهض الأمة، وبه تحقق رسالتها في الأرض.
التيارات الفكرية الأخرى، هي أيضاً ترمي لإنهاض "الأمة": فالتيارات الماضوية السلفية تتوسل بنموذج القرون الهجرية الأولى، ليكون "الحل" لأزمة المسلمين الحضارية. كذلك تفعل التيارات الإلحادية غير المؤمنة، فهي تبغي إنهاض الأمة وتخليصها من تخلفها، ولكن عبر الدعوة للاتعاظ بنماذج الأمم الناهضة حالياً في الغرب، وتقليدها.(مع أن هذا التوصيف المقتضب فيه شيء من التعميم غير الموضوعي). ومن المفيد إعادة القول هنا أنه بينما لا تتقبل تلك التيارات الأخرى مشاريع الآخرين وبرامجهم، بل تمارس الاستبداد بدعوى أن فرض برنامجها هو وحده الذي سيخلّص الأمة من تخلفها، وأن برامج الآخرين ستعطل ذلك الهدف النهضوي النبيل بالضرورة، فإن "العلمانية المؤمنة"، ومن حيث هي دعوة عقلانية تعددية، لا تمارس الاستبداد ضد تلك التيارات الماضوية والإلحادية، بل تترك لها حرية الدعوة لبرامجها ومشاريعها وأفكارها بحرية.
العلمانية المؤمنة، إذاً، ستكون دائماً في مواجهة مفروضة عليها من قبل التيارات الماضوية، التي تسمي نفسها "إسلامية"، هذا فضلاً عن مواجهتها مع العلمانية الإلحادية الاستبدادية. على صعيد "الفكر الإسلامي"، سيكون على العلمانية المؤمنة مواجهة تلك التيارات الماضوية المتعددة والمختلفة في شكلها ومظهرها، ولكن المتشابهة في جوهرها، كونها تصدر عن فهم واحد للإسلام، مفاده أن ثمة تطبيقا "إسلاميا" وحيدا، هو ذاك الذي عرفته الأمة في عصرها الأول، وإن كانت تختلف فيما بينها في تفاصيل ذلك الفهم. تلك التيارات الكثيرة، ستمارس الاستبداد الفكري تجاه العلمانية المؤمنة، فتسمها بالانحراف أو حتى الكفر، لمجرد أنها لا تسلّم بذلك الاعتقاد التراثي الخرافي الذي يوحّد بين الإسلام وتاريخ المسلمين، ويعتبر ذلك التاريخ هو التطبيق الصحيح للإسلام، الذي يجب تقليده في زماننا كي يكون تطبيقنا للإسلام صحيحاً، فنحوز رضى الله ونصرته، ما يحقق لنا النهوض ويعيننا عليه.
العلمانية المؤمنة ترفض هذا الفهم الماضوي، لأنها تصدر في فهمها للإسلام، الذي فصّلناه في الحلقات الثلاث الأولى من هذه السلسلة، من وضوح القرآن الكريم في دعوته للحرية والتعددية، لا مما قاله البشر في تراثنا الفقهي. وهكذا، فإنها ستكون بالضرورة على خلاف فكري حاد مع التيارات التي تصادر الإسلام لنفسها، يشبه التضاد الذي لا بد أن يحصل بين دعاة الحرية ودعاة الاستبداد.
العلمانية المؤمنة، بفهمها هذا ومعركتها هذه، هي بالضرورة فوق التجاذب المذهبي والصراع الطائفي بين المسلمين، ذلك أنها تفهم الإسلام من خلال القرآن، فيما تفهم المجموعات المذهبية والتيارات الطائفية الإسلام من خلال تاريخ المسلمين وصراعاتهم.
إن العلمانية المؤمنة، بسبب هذا، هي تيار يوحد المسلمين، وهذا طبيعي لأنها تنطلق من واقعهم المعاصر، ولا تلقي بالاً لخلافات التاريخ وترهاته. هذا يعني أن العلمانية المؤمنة لا بد أن تكون على النقيض تماماً من كل التيارات السلفية التي تنسب نفسها للإسلام، أياً كان مذهبها، وسواء كانت سنيّة أو شيعية، فهذه كلها تواصل إبعاد أنظار المسلمين، من كافة المذاهب، باتجاه الماضي والتاريخ الذي لم يعد لنا فيه ناقة أو جمل، فتواصل بذلك حرمان الأمة من فرصتها بالنهضة، من حيث لا تقصد.
العلمانية المؤمنة، إذاً، تمثل فكرة إنقاذية، تُخرج المسلمين من ارتهانهم للماضي، الذي فرضته عليهم سيطرة التيارات السلفية الماضوية على فهم الناس للإسلام وتفسيرهم له، في كافة المذاهب التي عرفها ويعرفها المسلمون. فهي تحرر فهم الإسلام من التاريخ، وتعيده إلى مصدره الأول الذي نزل به، وهو القرآن المحفوظ بعهد الله والصالح لكل زمان، حيث لا مذاهب أو طوائف أو انشقاقات فكرية بين المسلمين.
العلمانية المؤمنة، هي فهم قرآني أصيل، وليست محاولة توفيقية بين العلمانية والإسلام. وما دام كتاب المسلمين واحد لا خلاف عليه، فإن فهمها للإسلام هو فهم يتجاوز المذاهب، ولا يعترف بالطوائف، بل يقف على النقيض منها تماماً. العلمانيون المؤمنون ليسوا سنة ولا شيعة، إنهم مسلمون وحسب.